دخول الإسلام إلى القوقاز
الشيشانعرفت بلاد القوقاز الفاتحين المسلمين قديمًا جدًّا، فقد وجه الخليفة العادل عمر بن الخطاب حملة بقيادة سراقة بن عمرو (صاحب سواري كسرى) إلى بلاد فارس، ووصلت الحملة إلى بلدة "دربند" عام 22هـ.
وفي عهد عثمان بن عفان كان كثير من الصحابة يتوجهون إلى المرابطة على الثغور في أطراف أذربيجان وأرمينيا وجورجيا. ومن هناك بعث حذيفة بن اليمان برسالة إلى عثمان بن عفان يخبره فيها باختلاف المسلمين في قراءة القرآن الكريم، فكانت هذه الرسالة الدافع الأساسي وراء قيام عثمان بتوحيد المسلمين على "المصحف الإمام"، الذي عممه على الممالك والأمصار في ذلك الوقت.
لقد دخل الإسلام إلى الشيشان والداغستان منذ القرن الأول للهجرة، حيث أقبل الناس هناك على اعتناق الإسلام، بعد أن رأوا حسن تعامل التجار المسلمين معهم، وما شاهدوه من نبل سلوكهم وأمانتهم، فدخلوا في الإسلام طواعية. وقد أدى دخول الإسلام إلى أكثر مناطق العالم تنوعًا بالأعراق المختلفة المتعايشة مع بعضها البعض إلى ظهور نتائج عامة، أهمها:
1- تخلص الشعب القفقاسي من النصرانية التي اختلطت بالأديان القديمة ذات الآلهة المتعددة، ليتشرف باعتناقه الدين الإسلامي الحنيف.
2- عاشت الجماعات القفقاسية المنتمية إلى مجموعات عرقية مختلفة تحت راية واحدة، هي راية الأخوة التي ضمت شملهم تحت شعار الإسلام. كما أنه مع دخول الإسلام إلى المنطقة اكتسبت الجغرافية الإسلامية دولة ذات أهمية كبيرة، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الإستراتيجية.
3- أكسب الإسلام الجهاد المستمر ضد الروس على مر مئات السنين مزيدًا من القوة، وزاد من حدة المقاومة؛ مما أنهك الروس الذين ما برحوا يتبعون سياسة التوجُّه إلى منطقة البحار الدافئة.
وهكذا وقف الإسلام حائلاً دون تقهقر العالم الإسلامي من جهة الشمال.
الصراع مع روسيا
تعرضت الشيشان على امتداد تاريخها لاعتداءات الروس وإرهابهم، ويمكن تقسيم ذلك الصراع إلى المراحل التالية:
أولاً- في عهد روسيا القيصرية:
في أواخر القرن الثامن عشر بدأت أطماع روسيا القيصرية تمتد إلى منطقة القوقاز في عهد "كاترينا الثانية" التي بدأت بإرسال جيوش لاحتلال المنطقة. وكان قد تم في عهد "بطرس الأكبر" إقامة القلاع والمحميات على ضفتي نهر "التيرك"، الذي يفصل بين مناطق روسيا والقوقاز. وقد وطنت "كاترينا" في هذه القلاع شعوبًا نصرانية من "الكوزاك"، كما حاولت تنصير شعوب المنطقة بالقوة والإجبار.
وحين زحف القياصرة صوب القوقاز واجهوا مقاومة عنيفة حشدها عدد من المجاهدين الشيشان والداغستان، بقيادة الإمام منصور، والإمام شامل، والإمام نجم الدين، الذين ساهموا في ردع الجيش القيصري لسنوات عدة، ومنعوه من إحكام سيطرته على أرضهم.
ثانيًا- في عهد روسيا الشيوعية:
نشط المسلمين نشاطًا ملحوظًا خلال الحرب العالمية الأولى، واعتبروها فرصة للاستقلال؛ ولذلك أيدوا الحركة الاشتراكية الشيوعية التي أطاحت بالقيصرية الروسية عام 1917م بزعامة "لينين".
وحتى يكسب "لينين" التأييد العام نادى بـ"حرية الأقليات" التي اضطهدها القياصرة، وأصدر وعودًا -كاذبة- لهذه الأقليات بالانفصال والاستقلال. وعلى الفور قامت جمهوريات إسلامية بالاستقلال، وأظهرت رغبتها في إنشاء "دولة إسلامية فدرالية".
ولكن لما ظهرت آثار قوة النظام الشيوعي، أصدر "لينين" أوامره بالزحف على البلاد الإسلامية، فاجتاح الجيش الروسي هذه الجمهوريات، وأمعن في حملات الإبادة والتهجير الجماعي للمسلمين بشكل أبشع وأقذر مما كان عليه في العهد القيصري.
لقد قتل "لينين" حوالي 8 ملايين مسلم، وقتل خليفته "ستالين" أكثر من 20 مليونًا. كما هدمت معظم المساجد والمدارس الإسلامية، وتم تفتيت القوقاز إلى عدة مناطق ودويلات، كما قسمت جمهورية الشيشان إلى مقاطعة "الشيشان - أنجوشيا". وفي عام 1936م كانت الشيشان تغطي أكثر من ثلاثة أرباع ما يحتاجه الاتحاد السوفيتي من النفط ومشتقاته.
وقد واجه الشيشان الاحتلال الشيوعي بقوَّة من خلال ثورات عدة ضد الظلم والقهر الشيوعي، منها ثورة "إبراهيم قلدقت" عام 1934م، وثورة "حسن إسرائيلوف" عام 1940م وغيرها، وكان الشيوعيون يقمعونها بالحديد والنار.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية قرر "هتلر" ضم القوقاز وأوكرانيا إلى الدولة النازية؛ طمعًا في توفير الطعام والوقود من نتاج تلك الأراضي. ولكن الشيشان لم تتدخل في الصراع بين الفريقين (الشيوعي والنازي)؛ لذلك ونتيجة لعدم تدخل الشيشان في الحرب إلى جانب الشيوعيين، أعلنت حكومة "ستالين" أن شعوب الشيشان والأنجوش والقرم هي شعوب "خائنة"، وعليه بدأت في عام 1944م بعملية ترحيل جماعي عبر القاطرات الطويلة لشعوب تلك المناطق إلى كازاخستان وسيبيريا المتجمدة، وخربت كل أراضيهم وممتلكاتهم، وهلك عشرات الآلاف نتيجة الجوع والمرض والمعاناة والتعذيب والقهر.
وفي عام 1957م -أي بعد 13 عامًا من إصدار الحكم الجائر بنفي هذا الشعب- أعلن الرئيس السوفيتي "خورتشوف" براءة الشيشان ومسلمي القرم من التهمة التي وجهت ضدهم، وسمح لهم بالعودة إلى بلادهم، فعاد الكثير منهم.
وفي عام 1982م بدأت محاولات جديدة لضم جمهوريات القوقاز إلى سلطة موسكو مباشرة، وكالعادة هبَّ شعب الشيشان كله ضد هذا الجور والظلم، واستمر الوضع القائم في ظل الشيوعية حتى انهيارها.
ثالثًا- في عهد روسيا الحالية:
بعد انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى جمهوريات مستقلة، أعلن رسميًّا استقلال جمهورية الشيشان عن روسيا الاتحادية في عام 1991م. ورغم سقوط الشيوعية إلا أن العداء للإسلام ظل السمة البارزة للقيادة الروسية، التي رفضت الاعتراف بالشيشان كدولة مستقلة، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية، ولكنها لم تهاجم الشيشان عسكريًّا؛ بسبب الاضطرابات التي كانت تمر بها روسيا في الأعوام 1991 - 1994م.
وخلال هذه الفترة تم انتخاب "جوهر دوداييف" رئيسًا للشيشان، وبدأ الناس ببناء المساجد وافتتاح المدارس الإسلامية، وسرعان ما أشيد أكثر من 400 مسجد في مدن وقرى الشيشان المختلفة.
وفي أواخر عام 1994م تحرك آلاف من الجنود الروس باتجاه العاصمة الشيشانية "جروزني"، تدعمهم الطائرات والدبابات، ليبدأ فصل جديد من عملية إبادة الشعب الشيشاني المسلم.
ويمكن القول إن أهم دوافع روسيا لغزو الشيشان هي:
1- حلمها بتكوين إمبراطورية روسية على غرار "أوربا الموحدة".
2- إعادة الثقة لنفسها وهيبتها أمام العالم.
3- تفرُّق المسلمين وانشغالهم بمشاكلهم الداخلية؛ مما يمنعهم من التدخل لحماية إخوانهم الشيشان.
4- يعدُّ الشيشان من أبغض الشعوب إلى الروس، كما تذكر الأساطير والروايات الروسية.
5- الاستفادة من النفط الشيشاني، ومن المناطق الزراعية والصناعية في الشيشان.
6- الخوف من تفكك الاتحاد الروسي.
ومنذ أواخر ذلك العام (1994م) وحتى اليوم لا تزال الحرب مشتعلة، ورغم الادعاء الروسي المتكرر بأن الجيش قد أحكم سيطرته على الشيشان، وأن الحرب قد أوشكت على الانتهاء، يرد المجاهدون الشيشان بعمليات عسكرية قوية، مؤذنين بحربٍ ستطول، لن يخسرها الشيشان، ولن يربحها الروس.
مقومات الشخصية الشيشانية
يقول الكاتب الروسي الشهير "سولجنستين" الذي عاصر ما فعله "ستالين" بالشيشان في معسكرات الإبعاد الجماعي والسجون في وسط آسيا: "لك أن تكسر ظهورهم، لكن أحدًا لا يستطيع أن ينال من روحهم المعنوية، فقد ظلت نفوسهم نمرًا مقيدًا بالسلاسل؛ لأنهم كانوا من الشيشان الذين لا يرهبون الموت".
ويقول المؤرخ الأوربي "روبرت كونكوست" في كتاب (قتلة الأمم): "لقد كانوا أسودًا ذوي شهامة عسكرية تجلت في معاملتهم للأسرى والجرحى من الأعداء، ولا غرو في ذلك، فقد كان القادة هم العلماء الذين يقاتلون دفاعًا عن أرضهم ودينهم، حتى آخر جندي وآخر سيف".
ولأنهم شجعان فقد اختاروا "الذئب" رمزًا لهم، وهم يرون أن الذئب وإن لم يكن الأقوى إلا أنه الأنبل فهو لا يقاتل إلا الأقوياء، وهو ليس مثل الأسد أو النمر الذي يفترس الضعفاء. ويقول القائد الشيشاني شامل باسييف معلقًا على تساؤل أحد الصحفيين حول الفلسفة التي ينطلق منها الشيشان باعتبارهم الذئب شعارًا لهم: "إن الذئب عندما يموت لا يصرخ، وكذلك الشيشاني، ويظل الذئب يحدق في عدوِّه حتى وهو يشارف على الموت، كما أن أكثر هجوم الذئاب في الليل وكذلك نحن".
والحرية لدى الشيشان مقدسة وعزيزة، وهم يستخدمونها في محادثاتهم اليومية مع بعضهم البعض؛ فمثلاً يقول بعضهم لضيفه مرحبًا: "إذا دخلت هذا البيت تمتع بالحرية والسلام والعطف"، وإذا تمنى أحدهم الصحة لأخيه فإنه يقول: "ليمنحك الله الحرية"، والأرض والتراب مقدَّس، حتى إنهم ليرمون بالكفر من يخون بلاده ولا يحافظ على ترابها.
يقول النشيد الوطني الشيشاني:
"جبالنـا المكسـوة بحجـر الصـوان
عندما يدوي في أرجائها رصاص الحرب
نقف بكرامـة وشـرف على مر السنين
نتحدى الأعداء مهمـا كانت الصعاب
وبلادنـا عنـدمـا تنفجـر بالبـارود
من المحال أن ندفن فيها إلا بشرف وكرامة
لا إلــه إلا الـلـــه
لن نستكين أو نخضع إلا لله
فإنها إحـدى الحسنييـن:
الشهــادة أو النصــر
لا إلـــه إلا الـلــه".
إن تاريخ الشيشان الذي سطرته دماء أبنائه الأبطال هو أكبر من أن نجمله في هذه الأسطر القليلة؛ فصفحات المقاومة البيضاء النقية تظهر رغبة الشعب الشيشاني بحقه المشروع في العيش الآمن والتنعم بحياة كريمة في ظل الإسلام، ولما فرضت عليه الحرب قَبِل أن يموت كريمًا على أن يعيش ذليلاً. وإن الشعب الذي يموت مجاهدًا في سبيل الله، صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر، هو شعب يستحق أن ينال حريته واستقلاله؛ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
المصدر: موقع الخطاب.