الدعوة إلى الجهاد في القرآن والسنة (1)
الحمد لله الذي شرع الجهادَ بالقلبِ، واليدِ، واللسان، وجعل جزاءَ مَن قام به الغُرَفَ العالية في الجنان، وأَشهد أن لا إله إلا الله وحدَه، لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، والمأمور بقتال المشركين، جاهَد في الله حقَّ جهاده، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، الذين آمنوا به وعزَّروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم؛ فكانوا هم السادةَ الغالبين.
أما بعد:
فمعلومٌ ما كان عليه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - في الجهاد مع المشركين منذ بَعثه الله - عز وجل - وأكرمه بالرسالة، إلى أن توفَّاه الله، واختار له ما عنده، فكان يغشى الناس في مجالسهم في أيام المواسم وغيرها، ويأتِيهم في أسواقهم، فيتلو عليهم القرآن، ويدعوَهم إلى الله - عز وجل - ويقول: ((مَن يُؤوِينى، ومَن يَنصُرني حتى أبلِّغ رسالات ربي، وله الجنة))، فلم يجد أحدًا ينصرُه ولا يُؤويه.
واستمرَّ يدعو إلى الله، ويصبر على الأذى، ويَصْفَح عن الجاهل مدَّة ثلاث عشرة سنةً؛ لإقامة حُجة الله - تعالى - ووفاءً بوعدِه الذي امتن عليهم به في قوله: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، فاستمرَّ الناس في الطغيان، وما استدلوا بواضح البرهان، وكانت قريشٌ قد اضطهدت مَن اتَّبعه من قومِه؛ ليفتنوهم عن دينهم، حتى نَفَوهم عن بلادهم: فمنهم مَن فرَّ إلى أرض الحبشة، ومنهم مَن خَرَج إلى المدينة، ومنهم مَن صبر على الأذى من حبسٍ، وجوعٍ، وعطشٍ، وضربٍ، حتى إن الواحد منهم ما كان يقدِر أن يستويَ جالسًا من شدَّة الضرب.
لقد جعلوا في عُنُق بلالٍ حبلاً، ودفعوا به إلى الصِّبيان ليلعبوا به، ويطوفوا به شِعَاب مكة، وما لاقاه آلُ ياسرٍ من العذاب يَفُوق ما يَحْتَمِله البشر.
وآذَت قريشٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصَروه في الشِّعْب، وحاول عُقْبَة بن أبي مُعَيطٍ أن يَخنُقه مرَّة، وما زال يشدُّ ثوبَه عليه حتى جَحَظت عيناه، وأسرع أبو بكر فخلَّصه، وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقولَ ربي الله!
وحاول أبو جهلٍ قتلَ الرسول - وهو بالمسجد يصلِّي - فحَمَل حجرًا ضخمًا ليُلْقِيَه على رأسه وهو ساجد، ولَمَّا همَّ بإلقائِه رجع مذعورًا، وقال: اعترضني دون محمدٍ فَحْلٌ هائلٌ من الإبلِ همَّ أن يأكلَني.
ولما أراد الله إظهارَ دينِه، وإنجازَ وعدِه، ونصْرَ نبيِّه، أمره الله - تعالى - بالهجرة إلى المدينة، فاستقرَّ صلوات الله وسلامه عليه بها، وأيَّده الله بنصره وبعباده المؤمنين، فمنعته أنصارُ الله، وكتيبةُ الإسلامِ من الأسود والأحمر، فبَذَلوا نفوسَهم دونه، وقدَّموا محبتَه على محبة الآباء والأبناء والأزواج.
وكان أَوْلَى بهم من أنفسِهم، فلمَّا رَمَتهم العرب واليهود عن قوسٍ واحدة، وشمَّروا لهم عن ساقِ العداوةِ والمحاربة وصاحوا بهم من كل جانب - أذِن الله لهم حينئذٍ في القتال، ولم يَفْرِضه عليهم؛ فقال: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39 - 40].
أي: هو قادرٌ على نصرِ عباده المؤمنين من غيرِ قتالٍ، ولكنَّ الله يُرِيد من عبادِه أن يَبذُلوا جهدَهم في طاعته، كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ *وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ [محمد: 4 - 6].
ثم فَرَض عليهم القتالَ بعد ذلك لمَن قاتلهم دون مَن لم يقاتلهم؛ فقال: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190].
ثم أنزل في سورة "براءة" الأمرَ بنَبْذِ العهود، وأمرهم بقتال المشركين كافَّة، وأمر بقتال أهل الكتاب إذا لم يُسْلِموا حتى يُعْطُوا الجِزْيَة عن يدٍ هم صاغرون.
ولم يُبِحْ لهم تركَ قتالِهم، وإن سالَموهم وهادونهم هُدْنَة مطلَقة مع إمكان جهادِهم.
فكان القتال ممنوعًا، ثم مأذونًا به - لمَن بدأهم بالقتال - ثم مأمورًا به لجميع المشركين، كما في سورة البقرة، وآل عمران، وبراءة، وغيرها من السور.
أوجب الله على المسلمين القتالَ، وعظم أمره في معظم السور المدنية، كما في قولِه - تعالى -: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41].
وقال - تعالى -: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
فالقتال: وإن كان مكروهًا للنفس بطبيعتها؛ لِمَا فيه من التعرُّض للقتل، والأَسْر، وتشويهِ البَدَن، وإتلاف المال، وتدمير المصانع، وتخريب البلاد، وإشاعة الرعب والفزع في النفوس، والإخراج من الأوطان.
فقد رتَّب الله عليه من الأجر والفوز ما لا يَخْطر على قلبِ بشرٍ.
قال عكرمة: إنهم كَرِهوه، ثم أَحَبُّوه، وقالوا: سمِعنا وأَطَعنا.
وهذا لأن امتثال الأمر يتضمَّن مشقَّة، ولكن إذا عُرِف الثوابُ هان في جنبِه مقاساةُ المشقَّات.
وقد تظاهرت آياتُ الكتابِ، وتواترت نصوصُ السنَّة على الترغيبِ في الجهادِ، والحضِّ عليه، ومدح أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربهم من أنواع الكرامات؛ لأنهم جندُ الله الذين يُقِيم بهم دينَه، ويَدْفَع بهم بأسَ أعدائه، ويَحْفَظ بهم بَيضة الإسلام، ويحمي حَوْزَة الدين.
وهم الذين يُقاتِلون أعداء الله؛ ليكون الدينُ كلُّه لله، ولتكون كلمةُ الله هي العليا، وجعَلهم شركاءَ لكلِّ مَن يَحمُونه بسيوفِهم في أعمالهم التي يَعمَلُونها، وإن باتوا في ديارهم، ولهم مثل أجورِ من عَبَد الله بسببِ جهادِهم وفتوحِهم، فإنهم كانوا هم السببَ فيه.
والشارعُ قد نزَّل المتسبِّب منزلةَ الفاعلِ التامِّ من الأجر والوِزْر، فكأنَّ الداعيَ إلى الهُدَى، والداعي إلى الضلال، لكلٍّ منها - بتسبُّبِه - مثلُ أجرِ مَن اتبعه، ويكفي في ذلك قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الصف: 10].
فتشوَّقت النفوس إلى هذه التجارةِ الرابحة التي دلَّ عليها ربُّ العالمين؛ فقال:﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الصف: 11].
فكأن النفوسَ ضنَّت بحياتها وبقائها؛ فقال: ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الصف: 11]؛ يعنى: أن الجهادَ خيرٌ لكم من قعودِكم، فقال: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [الصف: 12]، ومع "المغفرة": ﴿ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: 12].
فكأنهم قالوا: هذا في الآخرة، فما لنا في الدنيا؟
فقال: ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف: 13].
فلله مَا أحلى هذه الألفاظَ، وما ألصقَها بالقلوب، وما أعظمَها جذبًا لها، وتيسيرًا إلى ربها، وما ألطفَ موقعَها من قلبِ كلِّ محبٍّ، وما أعظمَ غنى القلبِ، وأطيبَ عيشَه حين تباشره معانيها، فنسأل الله من فضله.
ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التوبة: 21 - 22]، فأخبر - سبحانه وتعالى - أنه لا يستوي عنده عِمارةُ المسجدِ الحرامِ وهو عِمارةٌ بالاعتكافِ والطوافِ والصلاةِ، وأهل سقاية الحاجِّ، لا يستوون هم وأهل الجهادِ في سبيل الله، وأخبر أنَّ المؤمنين المجاهِدين أعظمُ درجةً عنده، وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البِشارة بالرحمة والرضوان والجنات، فنَفَى التسويةَ بين المجاهدين وعِمَارة المسجد الحرام مع أنواع العبادة مع ثنائه على عُمَّاره؛ بقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
فهؤلاء هم عُمَّار المساجد، ومع ذلك فأهلُ الجهادِ أرفعُ درجةً عند الله منهم.
قال - تعالى -: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 95 - 96].
المصدر: مجلة التوحيد، عدد رجب 1393هـ، صفحة 8.
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Sharia/0/41753/#ixzz2D9BNQuf8