تعبير القوقاز بالنسبة لمؤلف كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى" مستشار الرئيس الامريكي السابق لشئون الامن القومي زبغينيو بريجينسكي هي قلب العالم، ومن يسيطر عليها سيكون سيد العالم.واصبحت القوقاز المنطقة ذات الاهمية الاستراتيجية الهامة وبوابة ممرات الطاقة لضخ النفط والغاز من حقول قزوين واسيا الوسطى الى اوروبا، في الاونة الاخيرة مسرحا للتنافس المتصاعد بين واشنطن وموسكو.
وشدد من السباق على بسط النفوذ على هذه المنطقة ايضا، تحركات دول المنطقة الثلاث، ولاسيما خروج جورجيا من رابطة الدولة المستقلة والاتفاق بين امريكا وجورجيا ذي الطبيعة الامنية، اضافة الى الاتفاقية التاريخية بين ارمينيا ونركيا التي مهدت لاستئناف العلاقات الذي ظلت مقطوعة ومتوترة على مدى عقود من الزمن.
مصالح استراتجية
وترصد بعض القوى في موسكو ان واشنطن ومنذ فترة بعيدة تسعى لاضعاف النفوذ الروسي في جمهوريات القوقاز الثلاث: جورجيا واذربيجان وارمينيا. والمعروف ان جميعها كانت جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وان روسيا لاتكف عن اعتبارها " منطقة مصالح حيوية لها" لا يحق للناتو والبنى الغربية الاخرى بسط النفوذعليها.وترى موسكو ان هذه المنطقة تؤثر بصورة مباشرة على جهودها الرامية لاحلال الاستقرار وفرض النظام في منطقة شمال القوقاز التي تنشط فيها الجماعات المسلحة وتنتشر بانحاءها اعمال العنف.
في الوقت نفسه تستخدم الولايات المتحدة الموقع الاستراتيجي لجنوب القوقاز لتشديد الضغط على ايران ولشد ازر عملياتها العسكرية في افغانستان.وتنظر باهتمام بالغ ايضا الى احتياطات النفط والغاز الكبرى في هذه المنطقة، وتراهن على ان بوسع هذه القدرات مساعدتها على خفض تبعيتها لمصادر الطاقة العربية.
وبرزت اذربيجان التي تمتلك احتياطات نفط كبيرة كلاعب رئيس في مشاريع الطاقة الكبرى. ففي اطار هذه المشاريع جرى بناء انبوب نفط باكو تبليسي جيهان المار من خلال اراضي اذربيجان، وجورجيا وتركيا. وينظر الغرب لهذا الخط على انه خطوة هامة على سبيل تصفية احتكار روسيا صادرات النفط والغاز الى اوربا.
ووسعت امريكا حضورها باذربيجان وتستعمل واشنطن احدى مطارات باكو لتزويد الطائرات الامريكية العسكرية بالوقود,وحصلت ايضا على تسهيلات لإستخدام المجال الجوي الاذري لتحليق طائراتها العسكرية الى افغانستان والعودة منها.
ولم تقف موسكو مكتوفة اليدين من هذه التطورات التي تثير مخاوفها،اذ اتخذت الخطوات الهادفة لتعميق العلاقات مع اذربيجان.وسعت العام الماضي الى تمديد فترة تأجير محطة الرادار في جابال الاذرية، وعززت التعاون التعاون مع باكو في مجال الطاقة.
جورجيا التي تنظر للغرب
اشتعلت حرب الايام الخمسة بين روسيا وجورجيا عام 2008. وكانت جورجيا قد قامت بعملية عسكرية مدمرة لاستعادة اوسيتيا الجنوبية التي خرجت مع ابخازيا من تحت سيطرتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في التسعينات،.واشتد التوتر من جديد عقب اسبوع من انطفاء النزاع، حينما اعترفت روسيا بسيادة واستقلال جمهورتي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا. وقطعت جورجيا في سبتمبر 2008 العلاقات بروسيا، وخرجت في العام نفسه من رابطة الدول المستقلة.وسارعت واشنطن بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب بالاعلان عن انها خصصت حزمة من المساعدات تبلغ مليار دولار لتبليسي لتوظيفها بعملية إعمـار جورجيا وتصفية اثار حرب روسيا عليها.ووصف نائب الرئيس الامريكي جون بايدن خلال زيارته لتلبليسي في يونيو العام الماضي، جورجيا بانها "شريك استراتيجي هام" واعلن: ان واشنطن لا تعتزم التضحية بالمصالح الجورجية على حساب تفعيل العلاقات مع روسيا. وقال بايدن: ان الولايات المتحدة تواصل تقديم المساعدات الشاملة لهذه الدولة القوقازية، بما في ذلك في قضية الانضمام للناتو.
وتتخذ روسيا موقفا مغايرا للموقف الامريكي من هذه القضية. وتعهد رئيس الوزراء الروسي والرجل القوى في صناعة القرار بموسكو فلاديمير بوتين، ان روسيا عازمة على مواصلة تقديم الدعم السياسي والاقتصادي لكل من اوسيتيا الجنوبية وابخازيا.واضاف " ان روسيا لن تسمح باي عمل انتقامي اوتكرار مغامرات عسكرية جديدة على تخوم روسيا".
ارمينيا وتركيا تمدان الجسور
على جناح اخر من المنطقة ذات الاهمية الاستراتجية، وقعت ارمينيا وتركيا في اكتوبر عام 2009 على اتفاقية تاريخية تقضي بتطبيع العلاقات وفتح الحدود.وقال مراقبون ان الولايات المتحدة ادت دورا حاسمها بتقريب مواقف البلدين.وعندما تعثرت المباحثات في اللحظات الاخيرة بسبب نشوب الخلافات حول صيغ البيان الختامي، قامت وزيرة الخارجية الامريكية بدور الوسيط بين البلدين, وغرقت تركيا وارمينيا بالخلافات الحادة على مدى قرن بسبب ابادة مليون ونصف ارمني في الايام الاخيرة من وجود الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى.وتنفي تركيا التهم الارمنية بممارسة الابادة.ووقفت تركيا ايضا الى صف اذربيجان في نزاعها مع ارمينيا على اقليم ناجورني ـ كارباخ. وكانت تركيا قد اغلقت في 1993 حدودها مع ارمينيا،مؤكدة بذلك دعمها لاذربيجان.ويرى المحللون ان المصالحة بين الخصمين ستساعد واشنطن على ان تدخل خططها الاستراتيجية بشان ايران افغانستان،حيز الوجود وكذلك توفير ضمانات كافية لتوريدات النفط والغاز من منطقة قزوين.
وتساور روسيا الهواجس من ان يقود تطبيع العلاقات التركية ـ الارمنية الى فقدان مبررات مرابطة قاعدتها العسكرية في ارمينيا. فقد كانت تؤكد سابقا ان هذه القاعدة تهدف لدعم الاستقرارعلى الحدود الارمنية ـ التركية.ورغم ذلك فان روسيا وكالسابق ترتبط بعلاقات وثيقة مع ارمينيا سواء على صعيد ثنائي او في اطار منظمة معاهدة الامن الجماعي. ان هذا التكتل العسكري الذي تشكل في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يضم بصفوفه بالاضافة لروسيا كذلك ارمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان قيرغيزيا واوزبكستان وطاجيكستان، ويتحل يوما بعد اخر الى قوة عسكرية اقليمية لها حضورها الملموس.
وعلى وفق تقديرات المحللين فان العلاقات التركية ـ الارمنية ستتحسن اكثر في المستقبل القريب، ولكن تسوية النزاع على اقليم ناجورني كارباخ والجمهوريات التي اعلنت استقلال عن جورجيا تحتاج لوقت طويل. لذلك فان منطقة جنوب القوقاز ستبقى منطقة تنافس بين واشنطن وموسكو.
المصدر: "الوطن"، الكويت، 26 يناير 2010
http://www.alwatan.com.kw/ArticleDetails.aspx?Id=2876