أعلام المقاومة الشيشانية:
الإمام شامل باسييف
حيثما تطأ قدمك داغستان تطالعك في كل بيت وفي كل سوق صورة رجل يملأ عينيك مهابة، إنه "محمد شامل"؛ الذي قاد أشهر حركة للجهاد الإسلامي في محاولة -شبه مستحيلة- لوقف الزحف الروسي على أراضي مسلمي القوقاز.
لم يولد محمد شامل لأسرة معدمة سقته فقرًا وحرمانًا؛ حتى يفسر البعض جهاده نحو الحرية بأنه جهاد الفقراء المسحوقين؛ فبينما كان ملايين الفلاحين في روسيا يئنون من الاستعباد، في نهاية القرن الثامن عشر، كان "عليّ بن ديغنو" -والد الإمام شامل- فلاحًا من الأحرار، أما أمه فهي ابنة سيد "الآفار"؛ إحدى أهم القوميات في داغستان.
ولد شامل عام 1797م طفلاً مريضًا شاحبًا حاملاً اسم علي، وعندما بلغ الثامنة من عمره غيّر أبوه اسمه إلى شامل -يعني السعيد- أملاً في أن يتعافى الصبي. وكانت سنوات الطفولة والساعات الطوال التي قضاها مشتغلا بالرعي عند جبال القوقاز فرصة ليطبق ما تعلمه في المسجد من دروس في التفسير والحديث وقواعد اللغة العربية والشريعة الإسلامية. كما كانت هذه الساعات الطوال سببا في الارتباط الشديد بجغرافية المكان الذي سيدافع عنه فيما بعد، ويعمل على رده من المغتصبين.
تفتحت عيناه على مناهج الطرق الصوفية، وتتلمذ على أيدي علماء الطريقة النقشبندية التي حملت راية الجهاد في القوقاز وآسيا الوسطى. وكان هدير الجهاد يدوي في سماء داغستان. وحينما انضم جنديا إلى قوات المريدين أمضى قطاعا مهما من شبابه في خيام القادة العسكريين يتعلم سبل مواجهة هجوم أو شن غزوة من الغزوات. ويعتبر الباحث الفنلندي ليتزنجر في كتابه "القوقاز.. تحالف غير مقدس" أن شامل أقرب نماذج الرجال الذين عاشوا لتنفيذ أوامر الله؛ منحته الصوفية قدرًا وافرًا من ضبط النفس، والقدرة على التحليل والتعلم من الماضي، والاعتقاد بدور الكاريزما في تسيير الشعوب، واليقين بأن الإسلام دين فوق القوميات.
في نهاية القرن 15 كانت الشيشان وداغستان وباقي الأراضي بين البحر الأسود وبحر قزوين تداعب مخيلة القيصر الروسي إيفان الثالث، فاتفق مع قبائل القوزاق الموالية للدولة الروسية الوليدة بالغزو التدريجي لأراضي المسلمين في إقليم القوقاز. وأدى القوزاق المهمة بنجاح، فأقاموا أول مخفر أمامي على نهر تيرك، وصار هذا المخفر مدينة جروزني العاصمة الشيشانية فيما بعد. وخلال حكم إيفان الرابع -منتصف القرن 16- قام القوزاق ببناء مجموعة من الحصون في شمال داغستان والشيشان، عاقدين تحالفات مع بعض شعوب الإقليم. ومع بداية القرن 18 كانت آلاف الأسر القوزاقية قد تجمعت في الإقليم، وامتزجت مع القبائل المحلية، وتزاوجوا منهم وإن احتفظوا بالمسيحية دينا وبالروسية لغة.
وفي عام 1722م-خلال حكم بطرس الأكبر- وقع أول صدام بين القوات الروسية والشيشانيين الذين كسبوا المعركة أمام قوة فتية مستكشفة. وسرعان ما انتظمت صفوف المقاومة تحت زعامة الإمام منصور -الذي ولد عام 1732م- فاستطاع بفهمه العميق للقرآن أن يحول شيوخ القبائل إلى الإسلام، ونظم عبر مجالس الصوفية الطريقة النقشبندية حركة من الأتباع والمريدين لمواجهة التوغل الروسي في القوقاز. وحقق مجموعة من الانتصارات حتى أوقع به الروس ومات في الأَسر سنة 1794م. غير أن المسرح الشيشاني لم يهدأ بعد موت الإمام منصور إلا لعقدين من الزمان، بعدها صار "الغازي مولا" قائدًا للمريدين؛ حيث بدأ جهاده عام 1829م فحرك شعوب الجبال لمواجهة روسيا، وإن عرف عنه عدم مشاركته في المعارك، بل اشتهر بقدرته في التأثير على جنوده بسحر الكلمة وبلاغتها، كما قطع شوطًا كبيرًا في إرسال الدعاة من داغستان إلى سكان الجبال الشيشانية لتحويلهم من الوثنية إلى الإسلام.
وأمام تماسك قوة المريدين اتخذ الروس أسلوب حرق الدور على ساكنيها لإجبار المقاومين على الخروج؛ فسقط الغازي مولا في معركة غمري بين جثث آلاف المريدين، ولم ينجُ من هذه المعركة إلا القليل، وفر اثنان أحدهما "شامل" بعدما أصيب إصابة قاتلة.
وبعد مقتل الغازي مولا وجرح شامل اختير "حمزة بيه" قائدًا للمريدين بعد تزكية كبار الشيوخ. وظل حمزة لعامين يرتب الصفوف ويدعم الجيش، لكنه هزم، ثم اغتاله العملاء وهو يؤم المصلين في المسجد الجامع بمعقل المقاومة في هونزا بداغستان.
وهنا جاء دور شامل في قيادة المريدين عام 1834م، فأعاد شامل تنظيم جيش المريدين على نمط أعدائه القوزاق، وبشكل يشبه التنسيق الفيدرالي الحديث. كما نظم البريد في دولته، ونسق الإنفاق على الجيش من ريع الأراضي الزراعية التي ضُمّت إلى المساجد، كما نظم جمع الزكاة لتجهيز الجيش، وطرد الدراويش، ولم يقبل عودتهم إلا كجند في جيشه.
وفى دولة الإمام شامل -التي ارتكزت على الشيشان وداغستان، وامتدت من قزوين في الشرق إلى البحر الأسود في الغرب- كان السعي دءوبا للمساواة بين القوميات، بغض النظر عن اللغة والعرق والطبقة، في الوقت الذي سادت فيه العبودية روسيا. واستمد شامل من القوانين الإسلامية المنهج الذي نظم به الحياة الاجتماعية، وبصفة خاصة شؤون القصاص والعقاب في الجرائم المدنية، بل أخذ بالحكم الأشد في بعض القوانين؛ رغبة منه في الحفاظ على أركان دولته.
كما استفاد من الأسرى الروس وممن كانوا يتعاونون مع الروس، في تطوير قدراته العسكرية على نمط أوروبي حديث. وحاول شامل أن يستفيد من القوى الدولية لمساعدته، غير أن عزلة الميدان الذي يقاتل فيه حالت دون ذلك؛ ففي منتصف القرن التاسع عشر سعى شامل لفتح قناة اتصال مع كل من تركيا وإنجلترا وفرنسا لدعمه عسكريًّا ضد روسيا. وكان محمد علي باشا قد أرسل خطابًا فى عام 1840م، يفوض فيه شامل بقيادة سكان الإقليم، ويَعد بوصول الجيش المصري المتوغّل في الأراضي التركية إليهم لتقديم العون العسكري في مواجهة الروس، غير أن فشل مشروع محمد علي في تركيا، بدد آمال المريدين في وصول مدد مصري، وكانت روسيا قد قدمت لعدوتها تركيا قطعًا بحرية، وشاركت بجزء من أسطولها في البحر الأسود لضرب الأسطول المصري.
واستمرت المقاومة بقيادة شامل، إلى أن نفذ انسحابا تكتيكا إلى داخل الجبال، مغريا الروس بالتوغل خلفه عبر الغابات الكثيفة، مستعينًا بقارع طبل روسي أسير في حث الروس على التقدم، ثم انقض عليهم المريدون من جهات مختلفة فقتلوا أكثر من نصف ضباط الحملة. وتوالت الهجمات على الجيش الروسي المرتبك؛ ففقد أربعة مدافع من خمسة. ويقدر المؤرخون نتاج معارك الغابات التي استمرت أربع سنوات بنحو 10 آلاف قتيل روسي؛ إذ تمكن شامل بالمدافع الأربعة التي اغتنمها من الهجوم على حصون الروس، فأسقط آلاف القتلى، واغتنم 14 مدفعًا في سنتين فبدا وكأنه جيش جديد يبنى للمريدين.
وكتب أحد الجنرالات الروس في مذكراته مشيرًا إلى عظم كارثة الروس: "يا لها من مصيبة مفجعة إن الرجال الذين تناثرت أشلاؤهم هنا كان بمقدورهم فتح بلاد تمتد من اليابان في الشرق إلى أوكرانيا في الغرب".
وحينما رصدت روسيا 45 ألف روبل للإيقاع به, كتب شامل خطابًا إلى الجنرال الروسي على خط المواجهة، يقول فيه: "كم كانت سعادتي حين علمت أن رأسي تساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيدًا حينما أخبرك أن رأسك بل رأس القيصر ذاته لا تساوي لدي كوبيكا واحد".
وقع كفاح الإمام شامل ضحية التسويات الدولية ففي عام 1856م انتهت الحرب التركية الروسية، وهو ما سمح لروسيا بالتركيز بقوة على الجبهة القوقازية 20 ألف رجل، وأوكلت المهمة إلى الجنرال الشاب بريتانسكي في وقت كان شامل قد تخطى الستين من عمره.
وعكف بريتانسكي طويلا على دراسة الجغرافية العسكرية لمعارك الإمام شامل، وخلص إلى أن أهم الانتصارات التي حققها شامل لم تكن في أرض مفتوحة بل حينما كان يحتمي بالغابة والجبل. واختار سياسة أكثر حنكة عمن سبقوه فتقرب إلى الأهالي وأحسن معاملتهم ومنع التعرض للنساء ولغير المقاتلين فضمن عدم انقلابهم عليه في حربه الفاصلة مع الإمام.
وضغط بريتانسكي على قوات شامل حتى ألجأه إلى الغابات، ثم سخّر فرقة عسكرية بأكملها لقطع أشجار الغابات، فأزال بريتانسكي مساحات واسعة من غابات داغستان والشيشان على طول الطرق بين القلاع والحصون الروسية وفشل جيش شامل في مهاجمة القلاع الروسية التي صارت أكثر حذرًا، وبخطوات واثقة زحفت قوات بريتانسكي على مناطق نفوذ شامل واستمال عشرات القبائل التي أنهكتها الحرب وبدأت في لوم شامل على ما أصابهم من فقر وتشرد.
ووقعت عقلية شامل العسكرية المسنة في الخطأ القاتل؛ فتوقع الهجوم الروسي من مصدر محدد، في الوقت الذي تمسك الروس فيه بسرية المعلومات، وحركوا جزءًا من جيشهم فتوهم شامل أنهم ما زالوا في منتصف الطريق، بينما انقضّوا عليه من اتجاه آخر في حرب خاطفة؛ فأسر الإمام شامل، ونقل في رحلة طويلة إلى موسكو في موكب كبير وفي استعراض عسكري من ستافربول إلى موسكو، التي ظل بها حتى 1869م، حينما استجيب لطلبه أداء فريضة الحج؛ فرحل من موسكو إلى كييف، ثم إلى القسطنطينية ومنها إلى المدينة المنورة حيث لقي ربه هناك في 1871م.
وبقى (شامل) حيًّا في التراث الشعبي القوقازي والقصص البطولية إلى اليوم رمزًا للكفاح، موقنًا بسمو رسالته، معتقدًا أن النصر آت لا محالة مهما تأخر، ولعله يأتي على يد جيل من الأحفاد. ولم يخب ظن الإمام شامل فتوالت الأجيال حتى اليوم تسعى إلى الحرية التي ستأتي ولو بعد حين.
سليم خان يندرباييف
لم يكن مقتل الرجل مفاجأة لشعبه! فقد اختار بنفسه الطريق وعرف نهايته، وسبقه إلى نفس المصير عشرات من الرفاق، وعشرات الآلاف من أبناء الوطن. وإن كانت مأساة أن يُحرم الرجل من أن يدفن في ثرى الأرض التي جاهد من أجلها وعاش على حلم تحررها.
وكغيره من أبناء ذلك الجيل الذي نفى ستالين آباءه إلى أواسط آسيا في منتصف القرن العشرين، طُردت عائلة يندرباييف مع مئات الأسر الشيشانية إلى كازاخستان. وفي المنفى يولد سليم خان عام 1952م، ثم تلتقي عيناه الوطن عام 1958م بعد أن حُرم الميلاد به. ويكمل سليم خان دراسته للأدب السوفيتي والوطني في الفترة (1960- 1985م)، ويسارع مع إخوانه بتأسيس حزب ديمقراطي كان من المشاركين بفاعلية في استقلال الشيشان في 1991م. وأهلته أفكاره الوطنية وخبرته بالنفس ودرايته بالروس لأن يتدرج في المراتب السياسة ليصبح في 1993م نائبًا لأول رئيس للشيشان: الجنرال جوهر دوداييف.
وبعد ثلاث سنوات من الرفقة يلقى دوداييف ربه شهيدًا؛ حيث تم اغتياله في إبريل 1996م. وقبل أن يلملم سليم خان أحزانه كان عليه أن يجلس في مقعد صديقه المغتال لعشرة أشهر يلتقي في نهايتها بالرئيس الروسي يلتسين ويوقع معه اتفاقًا للتمهيد لاعتراف روسيا باستقلال الشيشان. وتجرى الانتخابات الرئاسية في الشيشان ويفوز فيها أصلان مسخادوف في مطلع 1997م.
وسرعان ما أدرك سليم خان أن الشعب الشيشاني رأى في مسخادوف كاريزما تحتاجها المرحلة التالية كما أدرك أن لعبة التسوية وحلول الوسط وخلافات القيادة لا تتحملها نفسه ووجدت طباعه الصارمة مناخا مناسبا لدى رفاق الجناح الراديكالي في القيادة الشيشانية الذي سعى إلى ضم داغستان إلى الشيشان وإعلانها دولة إسلامية موحدة في سبتمبر 1999م. وهنا افترق الجمع في خلاف على المنهج غير أن روسيا لم تترك الوقت لتسوية الخلافات الأيديولوجية وغزت الشيشان بعد أقل من شهر.
وفي عام 2000م يرتحل يندرباييف إلى باكستان ليوثق علاقته برفاقه في أفغانستان غير أن موسكو تضغط على إسلام آباد فيضطر إلى الرحيل إلى الإمارات ومنها إلى تركيا، ثم تكون الدوحة محطته الأخيرة حيث تم اغتياله على يد عملاء المخابرات الروسية.
ألف يندرباييف خمسة عشر كتابا، نصفها تقريبًا دواوين شعرية. ويؤكد بعض المثقفين الشيشان في المنفى أن يندرباييف -بعد خلافه مع قادة المقاومة- اعتزل السياسة وتفرغ لتأليف الكتب والقيام بدور ثقافي، والعزوف عن المشاركة السياسية في ظل قيود شديدة على تحركاته.
وتقوم أفكار يندرباييف على أربعة أعمدة رئيسية هي:
1 -الإيمان بأن لدى الشيشان مقومات الدولة المستقلة ولا عجب في ذلك فقد وقّع بنفسه في نهاية 1996م مع رئيس روسيا الأسبق بوريس يلتسين على اتفاقية للتحضير للاستقلال بعد 5 سنوات ويعتقد يندرباييف أنه: "ليس من الحكمة أن تصر على أن يتحقق حلمك في حياتك! فيمكن أن تتخيله متحققا في أيدي أبنائك وأحفادك"، ويؤكد بحزم: "إذا ما استمرت الحرب عشرًا أو مائة أو ألف سنة، حتى آخر رجل، فإننا على حق وسنظل ندافع عن حريتنا وحرية وكرامة المسلمين. أما إذا كان المسلمون يريدون منا أن نعيش تحت أقدام الروس، فنحن نتبرأ من هؤلاء المسلمين، نحن نريد ونحتاج إلى مسلمين أحرارًا".
2 - عدم الوثوق بالجانب الروسي المتلاعب بكل الأوراق. ويكفي أن السبب الأساسي لغزو الشيشان في خريف 1999م جاء انتقامًا لتفجير البنايات السكنية في موسكو التي سقط بسببها مئات القتلى. وقد سمح القدر لأن يشهد يندرباييف قبل اغتياله بثلاثة أشهر صدور كتاب لضابط المخابرات الروسي أليكسندر ليتفينينكا كشف فيه أن هذه التفجيرات صناعة زملائه في جهاز المخابرات ولا علاقة للشيشانيين بها.
3- ضرورة تقديم الذات إلى الغرب الذي يقبل ما تروجه روسيا دون تمحيص؛ وهو ما يفسر سعي يندرباييف للتنقل بين عواصم العالم لبيان وجهة النظر الشيشانية، وعقد لقاءات صحفية تفرق بين الضحية والجلاد، كما آمن يندرباييف بالتكاتف الإسلامي وضرورة مشاطرة المسلمين إخوانهم حيث كانوا.
أصلان مسخادوف
ساهم أصلان مسخادوف -عندما كان رئيسا لأركان القوات الشيشانية- مساهمة عظيمة في الحرب الشيشانية الروسية في الفترة (1994- 1996م)، ونجح في التنسيق بين عدد كبير من القادة الميدانيين الشيشانيين، رغم قسوة الظروف التي عمل فيها، كما نجح أيضا في تحويل جيشه المحدود العدد والعدة إلى جيش يمكنه مواجهة الدبابات الروسية وسلاح الطيران والمدفعية، وقاد محادثات السلام (1995- 1996م)، واستطاع بتفكيره العملي الهادئ كسب ثقة المفاوضين الروس.
انتخب رئيسًا للشيشان عام 1997م بسبب سجله العسكري، وبعد أن تعهد بمستقبل يسود فيه السلام على عكس الوعود التي قطعها غيره من المرشحين الأكثر شبابا أو منافسيه الأكثر راديكالية، وقد أصر على ضرورة استقلال الشيشان، إلا أنه كان مستعدا لقبول علاقة خاصة مع روسيا. ورفضت روسيا عرضه لإجراء محادثات السلام حتى فبراير 2005م، وعرضت السلطات الروسية تقديم (10 ملايين دولار) لمن يدلي بمعلومات تقود إلى مسخادوف وشامل باسييف، بعد أن سيطر المتمردون على مدرسة في بلدة بيسلان شمال أوسيتيا في سبتمبر 2004م مما أدى إلى مقتل أكثر من 300 شخص. وقد تجاهل الروس الإدانة العلنية التي وجهها مسخادوف للهجوم الدموي على المدرسة؛ معلنًا أن القوات التي تعمل تحت إمرته لا شأن لها بالهجوم، ودعا إلى تقديم باسييف للمحاكمة.
ولد مسخادوف في المنفى لأسرة غادرت الشيشان عام 1944م، ثم عادت عام 1957م، ثم أصبح ضابطا في سلاح المدفعية في الجيش السوفيتي، وخدم في المجر، وشارك في قمع الجيش السوفيتي للحركة الوطنية لاستقلال ليتوانيا عام 1991م، وهو ما ندم عليه فيما بعد، ثم أصبح رئيسًا لأركان حرب الجيش الشيشاني في العام التالي؛ عام انفصال الشيشان عن روسيا. وتميز مسخادوف بالانضباط العسكري والمحافظة على الرداء العسكري في كل الأوقات حتى فترة هربه من الجيش الروسي.
ولم يحقق مسخادوف نجاحًا سياسيًّا كالذي حققه شامل باساييف وغيره من القادة العسكريين الذين حجبوا زعامته؛ فقد كان باساييف خصمه الرئيسي في انتخابات 1997م، فلما فاز حرص على توحيد الجبهة الداخلية، فعين باساييف نائبًا لرئيس أركان الجيش ثم نائبًا لرئيس الوزراء، إلا أن باساييف انضم عام 1998م إلى القادة الميدانيين المعارضين؛ فعمت الفوضى الشيشان، وتعرض مسخادوف لمحاولتي اغتيال بسيارتين ملغومتين، بل هدده بعض مرءوسيه السابقين بالقتل، ووقع عدد من عمليات الاختطاف لعمال الإغاثة والمبعوثين الروس عامي (1989- 1999م)، إلى جانب سقوط مئات الضحايا والمطالبة بدفع فديات مالية، ولم يستطع مسخادوف وحكومته فعل شيئ لإطلاق سراح المختطفين، وكان مسخادوف إسلاميًّا محافظًا، شجع إعادة بعث التقاليد الشيشانية الدينية، لكنه في الوقت نفسه حاول حظر الحركة السلفية المعروفة بالوهابية، لكنه لم ينجح في ذلك.
وعندما تدفقت القوات الروسية على الشيشان سنة 1999م، اتحد مسخادوف مع القادة الميدانيين مرة أخرى، ولكن بعد أن فقد دوره القيادي؛ حيث تدفق الدعم المالي من الدول الإسلامية إلى القادة الميدانيين والعرب الذين يقاتلون معهم ولم يصل إليه شيء، ووصف مسخادوف المسلحين الذين يقتلون المدنيين، والذين هاجموا مدرسة بيسلان بالمجانين الذين فقدوا عقولهم؛ للفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية، وظل حتى النهاية يدين قتل المدنيين.
ويختزل البعض حياة مسخادوف في جملة واحدة تقول: "هو رجل وقف في منتصف الطريق، فلم تصل جرأته إلى التعاون مع عدوه لرسم مستقبل الشيشان ضمن حدود الدولة الروسية، ولم يصل به خياله ليرمي بنفسه وراء حلم الدولة الإسلامية المستقلة الكبرى التي تمتد من البحر إلى البحر (بحر قزوين والبحر الأسود)"؛ والسبب في هذا أن مسخادوف ترك نفسه لمن حوله، فظنه البعض ضعيفا يسهل قيادته، ورآه آخرون حريصًا على رفقاء القضية حتى لو لم يكن مقتنعا بأساليبهم، وظل كذلك حتى اغتيل في 8 مارس 2004م.
لم يعرف العالم شخصية مسخادوف إلا من خلال ثلاثة مواقف:
الأول: انتخابه رئيسا للجمهورية بنسبة نجاح 60%، متفوقًا على يندرباييف، وتوقيعه اتفاقية الترتيب لاستقلال الشيشان مع الرئيس الروسي يلتسين عام 1997م.
الثاني: رفضه تفجير القطارات واحتجاز الرهائن في المسارح والمدارس وغيرها، واعتبارها تشوه سمعة المقاومة الشيشانية، ولكنه كان يؤكد عقب كل حادثة أن روسيا هي المسئولة عن هذه العمليات بإخضاعها الشيشان تحت سيطرتها رغمًا عنها.
الثالث: مناداته -على مدى سنوات- باستعداده للتفاوض والحوار؛ لإيقاف نزيف الدم الشيشاني، ونجاح وزير ثقافته أحمد زكاييف، في إيقاظ الوعي الشعبي الأوربي حول ما يجري في الشيشان.
وباغتيال مسخادوف يكون الشيشان قد شهد اغتيال أربعة رؤساء في عشر سنين (1996- 2005م)، هم جوهر دوداييف، وبيندرباييف، وقاديروف، ومسخادوف.
3